الأمل الأخير
الدكتور أحمد كان طبيبًا شابًا وطموحًا يحلم بإحداث فرق في العالم. تخرج من أحد أفضل كليات الطب في مصر وكانت لديه مستقبل واعد أمامه. كان شغوفًا بمساعدة مرضاه وتحسين نظام الصحة في بلده.
لكن أحلامه تحولت قريبًا إلى كوابيس. أدرك أن واقع العمل كطبيب في مصر بعيد عن توقعاته. واجه العديد من التحديات والعقبات التي حالت دون نموه المهني والشخصي. كان عليه التعامل مع رواتب منخفضة، وظروف عمل سيئة، ونقص الموارد، والفساد، والبيروقراطية، والعنف. شعر بالإحباط، والإرهاق، واليأس.
قرر البحث عن فرصة أفضل في الخارج، مثلما فعل العديد من زملائه قبله. تقدم بطلبات لعدة وظائف في السعودية، والمملكة المتحدة، وغيرها من البلدان التي تقدم رواتب أعلى، ومرافق أفضل، واحترام أكبر للأطباء. كان يأمل في إيجاد مكان يستطيع فيه ممارسة الطب بكرامة ورضا.
لكن القدر كان له خطط أخرى له. تم رفض طلباته واحدًا تلو الآخر، لأسباب مختلفة. قال بعضهم إنه يفتقر إلى الخبرة، وقال آخرون إنه يفتقر إلى المؤهلات، وقال آخرون إنه يفتقر إلى العلاقات. شعر أنه اصطدم بجدار ولا مخرج له.
أصبح مكتئبًا وعزل نفسه عن عائلته وأصدقائه. فقد اهتمامه بعمله ومرضاه. بدأ يرتكب أخطاءً ويهمل واجباته. شعر أنه خذل نفسه وكل من آمن به.
في يوم من الأيام، تلقى خطابًا من وزارة الصحة. كان دعوة للانضمام إلى برنامج خاص يهدف إلى تحسين الخدمات الصحية في المناطق الريفية في مصر. قدم البرنامج حوافز للأطباء الذين وافقوا على العمل في قرى نائية لفترة محددة من الزمن. قال الخطاب إن الدكتور أحمد تم اختياره كأحد المرشحين للبرنامج.
رأى الدكتور أحمد هذا كأمله الأخير. فكر أن هذه ربما تكون فرصته للتكفير عن نفسه ولإحداث تأثير إيجابي على حياة الناس الذين يحتاجونه أكثر. قبل الدعوة وحزم حقائبه.
وصل إلى قريته المخصصة، التي كانت تقع في وسط الصحراء. استقبله بعض القرويين الذين رحبوا به بحرارة. أظهروا له مسكنه، والذي كان كوخًا صغيرًا به سرير، وطاولة، وكرسي. أظهروا له عيادته، والتي كانت خيمة بها بعض المستلزمات الأساسية.
صدم الدكتور أحمد من الظروف التي رآها. أدرك أنه لا يوجد لديه كهرباء، ولا ماء جاري، ولا إنترنت، ولا هاتف، ولا مختبر، ولا صيدلية، ولا سيارة إسعاف، ولا مستشفى قريب. تساءل كيف يستطيع علاج مرضاه بمثل هذه الموارد المحدودة.
قرر أن يستغل ما لديه من أفضل ما يمكن. بدأ يستقبل مرضاه كل يوم، من شروق الشمس إلى غروبها. عالجهم بالرحمة واللطف، رغم أنه كان يعلم أنه لا يستطيع فعل الكثير لهم. تشخص حالاتهم بأدوات بسيطة، مثل سماعة الطبيب، والميزان الحراري، والفانوس. وصف لهم علاجات بسيطة، مثل العسل، والثوم، والكمون، وأوراق السنط، وزيت الأرز. علَّمهم عن النظافة، والتغذية، والوقاية.
أدرك قريبًا أن معظم مرضاه يعانون من أمراض مزمنة ناتجة أو مُفَاقِمَة بسبب الفقر، وسوء التغذية، والتلوث، والجهل، والخرافات. رأى حالات من السل، والسكري، وارتفاع ضغط الدم، وفقر الدم، والتهاب الكبد، والملاريا، والبلهارسيات ، والزُّحَار ، والجذام ، وغيرها. رأى أيضًا حالات من الإصابات والعدوى الناتجة عن الحوادث أو العنف.
شعر بالإرهاق من شدة المشاكل التي يواجهها. شعر بالعجز واليأس مرة أخرى. تساءل إن كان يحقق أي فرق على الإطلاق.
بدأ يفقد الثقة بنفسه وبمهمته. بدأ يشك في خياراته وهدفه. بدأ يندم على قدومه إلى هذه القرية.
قرر الانسحاب من البرنامج والعودة إلى القاهرة. كتب خطابًا إلى وزارة الصحة يشرح فيه قراره. حزم حقائبه مرة أخرى.
لكن قبل أن يغادر، حدث شيء غير كل شيء.
تلقى زيارة من أحد مرضاه: فتاة صغيرة اسمها فاطمة.
فاطمة كانت من أول مرضى الدكتور أحمد في القرية. جاءت إليه بحالة شديدة من الزُّحَار ، وهو عدوى في العين تسبب العمى إذا لم تُعالَج. فحص الدكتور أحمد عينيها ووجد أنها تطورت إلى حالة تسمى التِّرِيْكِيَاسِيْس ، وهي حالة تتسبب في انعكاس الرموش داخلًا وخدش قرنية العين. أجرى لها جراحة بسيطة على جفونها باستخدام تخدير موضعي وأدوات معقمة. أعطاها بعض قطرات العين والمضادات الحيوية لمنع العدوى. طلب منها أن تعود لزيارته بعد أسبوع للمتابعة.
اتبعت فاطمة تعليمات الدكتور أحمد وعادت إلى العيادة عدة مرات. كل مرة، فحص الدكتور أحمد عينيها ولاحظ تحسنًا في حالتها. رأى رموشها تنمو بشكل طبيعي وقرنيتها تلتئم. رأى رؤيتها تتحسن وألمها يختفي. رأى ابتسامتها وامتنانها.
جاءت فاطمة لتشكر الدكتور أحمد على إنقاذ بصرها. جلبت له هدية: لوحة رسمتها بنفسها. كانت لوحة لزهرة دوار الشمس، ببتلات صفراء مشرقة ومركز بني داكن. كانت لوحة للأمل.
أثَّرَ الدكتور أحمد بلفتة فاطمة. نظر إلى اللوحة وشعر باندفاع من المشاعر. أدرك أنه لم يفشل. أدرك أنه حقق فرقًا. أدرك أن لديه هدفًا.
قرر البقاء في القرية ومواصلة عمله. قرر الحفاظ على أمله حيًا.
شكر فاطمة وعانقها. علق اللوحة على جدار كوخه. ابتسم وشعر بإحساس جديد من الرضا.
كان مستعدًا لمواجهة يوم آخر.
لكن بعد أسابيع، حدث شيء زاد من معاناته.
تلقى خبرًا محزنًا من أحد أصدقائه: والده توفي بسبب نوبة قلبية.
انهار الدكتور أحمد من الحزن والندم. شعر بالذنب لأنه لم يكن بجانب والده في آخر لحظاته. شعر بالوحدة لأنه لم يكن لديه أحد يسانده في هذا المصاب. شعر باليأس لأنه فقد آخر رابط يجمعه بماضيه.
قرر العودة إلى القاهرة فورًا لحضور جنازة والده وتوديعه. ترك حقائبه ولوحة فاطمة في كوخه. ترك عيادته ومرضاه في القرية. ترك أمله وحلمه في الصحراء.
وصل إلى القاهرة وشارك في مراسم الدفن. رأى عائلته وأصدقاء والده يحتشدون حول قبره. رأى دموعهم وحزنهم. رأى حبهم وتقديرهم.
شعر بالغربة والانفصال. شعر أنه لا ينتمي إلى هذا المكان. شعر أنه لا يستحق هذا العزاء.
قرر الانطواء على نفسه وعدم التواصل مع أحد. قرر الإقلاع عن الطب والبحث عن عمل آخر. قرر التخلي عن كل شيء.
ولكن قبل أن يفعل ذلك، حدث شيء غير تفكيره..
تلقى مكالمة من فاطمة. تأثر الدكتور أحمد بلفتة فاطمة. تذكر اللوحة وشعر باندفاع من المشاعر. أدرك أنه لم يفشل. أدرك أنه حقق فرقًا. أدرك أن لديه هدفًا.
وعندما عاد إلى القرية، حدث شيء مروع.
انفجرت قنبلة في القرية، نتيجة لهجوم إرهابي مستهدف. انهار كوخ الدكتور أحمد وخيمة عيادته. اشتعلت النيران في كل مكان. سُمِع صرخات القرويين والمصابين.
قُتِل الدكتور أحمد وفاطمة والعديد من الأبرياء في الانفجار.
ولم يبق منهم سوى ذكرى مؤلمة.
- النهاية -
keko_ferkeko يعجبه هذا الموضوع
نفسنالجمعة أغسطس 11, 2023 2:23 pm