لأنني رجل محظوظ
كنا داخل الطائرة في مطار كوالا لامبور العاصمة الساحرة لماليزيا، التي تجمع ما بين سحر آسيا العريقة وتحضر أية دولة غربية حديثة، عندما لاحظنا أن الضباب كثيف أكثر من اللازم خارج المطار.. ثم عرفنا أن هناك حريق غابات هائلاً جعل الرؤية في العاصمة شبه معدومة، وأن هناك حالات اختناق لا بأس بها. لكن الطيار قدر أن الرؤية معقولة لأن الدخان لم يبلغ المطار بعد، وهكذا انطلق علي الممر وسرعان ما صرنا فوق السحاب،، وصارت كوالا لامبور وحريق غاباتها ذكرى بعيدة. من حسن الحظ أنهم سيطروا علي الحريق سريعًا فلم تحدث كارثة كالتي حدثت في روسيا كان هذا شعورًا ممتعًا وقاسيًا في آن.. أن تترك المشاكل علي الأرض وتفر.. صحيح أنه لا يخلو من النذالة، فأنت تخليت عن إخوانك في الإنسانية لمجرد أنك محظوظ وأن لديك مقعدًا في الطائرة.. لكن الحماسة لم تكن لتبلغ بي درجة أن أصرخ ليوقفوا الطائرة وأنزل |
كلما قرأت عن المشاكل المنهمرة علي مصر في الفترة الأخيرة تساءلت عن طريقة الحل.. من أين يبدأ من يبدأ، وكيف تستمر السفينة طافية فوق الموج العاتي؟ ثم أدرك أن جيلي لم يعد لديه وقت كافٍ لحل أي شيء.. عليه أن يركب الطائرة ويصعد.. بلا هبوط هذه المرة... هذا يعني ببساطة أن المشاكل كلها سوف تنهمر علي رأس ابني.. لقد خدعته وهربت بنفسي بينما يواجه هو كل هذه الأخطار
آسف يا بني.. سيكون عليك أن تفهم هذا اللغز المحير الذي لابد أن الأمم تحكيه لبعضها علي القهاوي مع الكثير من الـ (هع هع هع) و(كفك). وسائل الإعلام تتحدث عن أن مصر تعتزم إعادة شراء الغاز الطبيعي الذي تصدره إلي إسرائيل بسبعة أضعاف السعر الذي تدفعه الدولة العبرية، والسبب هو نقص الغاز الطبيعي مما أدى للعجز عن مواجهة الضغوط علي شبكة الكهرباء في موسم الحر الشديد. الجانب المصري ينفي هذا ويسخر منه، وقد أكد رئيس الشركة القابضة للغازات الطبيعية أن هذا خبر كاذب.. لكن صحيفة إسرائيلية تقول إن الحكومة المصرية قررت إعادة شراء 1.5 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي بنحو 14 مليار دولار، رغم أن السعر الذي تشتريه به إسرائيل لا يزيد علي ملياري دولار. أي أننا سنشتري ما كان ملكنا بسبعة أضعاف سعره
آسف يا بني.. سيكون عليك أن تفهم هذا اللغز المحير الذي لابد أن الأمم تحكيه لبعضها علي القهاوي مع الكثير من الـ (هع هع هع) و(كفك). وسائل الإعلام تتحدث عن أن مصر تعتزم إعادة شراء الغاز الطبيعي الذي تصدره إلي إسرائيل بسبعة أضعاف السعر الذي تدفعه الدولة العبرية، والسبب هو نقص الغاز الطبيعي مما أدى للعجز عن مواجهة الضغوط علي شبكة الكهرباء في موسم الحر الشديد. الجانب المصري ينفي هذا ويسخر منه، وقد أكد رئيس الشركة القابضة للغازات الطبيعية أن هذا خبر كاذب.. لكن صحيفة إسرائيلية تقول إن الحكومة المصرية قررت إعادة شراء 1.5 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي بنحو 14 مليار دولار، رغم أن السعر الذي تشتريه به إسرائيل لا يزيد علي ملياري دولار. أي أننا سنشتري ما كان ملكنا بسبعة أضعاف سعره
لو كان الخبر صحيحًا، فقد حدث ما حذر منه الجميع -وأولهم الأستاذ فهمي هويدي- منذ عامين، وقيل وقتها إننا دعاة حرب داحس والغبراء، وطرح الأستاذ نبيل شرف الدين رأيه الذي يتلخص في أن الصفقة عمل عبقري يدل علي فهم مطلق لموازين القوى وحقائقها علي الأرض بالجغرافيا والتاريخ، وأن إسرائيل حقيقة إقليمية لابد من قبولها وإلا كنا من القومجية والإخوانجية، وهذه الصفقة ستجعل لنا في إسرائيل لوبي يرفض الحرب علي مصر، والتمدد الإقليمي القَطَري هو الخطر الحقيقي علي المنطقة حيث ستصير قطر هي إسرائيل الخليج ! . نتيجة لآراء مماثلة صحونا ذات يوم لنجد أننا نصدر لإسرائيل الغاز الطبيعي بنصف سعر التكلفة ولمدة عشرين عامًا
سيكون عليك فهم هذا يا بني والتوصل إلي جواب
سيكون عليك كذلك أن تفهم لغز القمح الذي يبدو أنه لن يُسمح لنا بالاكتفاء ذاتيًا منه أبدًا. سيبقي وسيلة ضغط وتهديد دائمة، لكن أحدًا لا يريد أن يوجد حلولاً.. صحيح أن الكنتالوب والفراولة طعمهما ألذ، لكنك لا تستطيع صنع رغيف من الكنتالوب.. صدقني.. لا أعرف إن كنا سنواجه مجاعة قريبًا أم لا، بعدما أعادت أوكرانيا النظر في صادراتها من القمح، لكني أرجح أنهم في مصر سيجدون حلاً مؤقتًا يدبرون به استيراد القمح.. توابع هذا الحل المؤقت سوف تكتشفها أنت لا أنا
سيكون عليك كذلك فهم لماذا تتسرب آثار مصر بهذه السهولة والسرعة، وكيف تتم سرقة لوحة (أزهار الخشخاش) وهي قد سرقت من قبل ؟.. يخيل لي أن من يرونها في المتحف يرونها في اللحظات النادرة التي لا تُسرق فيها. ومن جديد يتبين أن نظام الأمن هيكلي والكاميرات تالفة.. إلخ.. ولسوف تدرك مع التدقيق أن ما دعا إليه البعض قديمًا يتحقق؛ ألا وهو بيع تحف متحف محمد محمود خليل لسداد ديون مصر، لكن أحدًا لن يسدد ديون مصر.. سوف يسددون القسط الرابع من ثمن فيلا بورتو مارينا.. وألف رحمة علي محمد محمود خليل الثري الأمثل نصير الثقافة والفنون الذي جمع هذه التحف من ماله ليهديها لشعبه.. لابد أنه يتقلب في قبره ألف مرة يوميًا. كنت في زيارة لمتحفه عندما رأيت لوحة لديلاكروا (ولعله كان فلاسكويز) معلقة جوار باب شرفة مفتوحة، وقد حمصتها الشمس تمامًا حتي كادت الألوان تذوب والقماش يحترق.. قلت لأحد الأمناء هناك إن هذا إهمال جسيم، فقال في ملل إنهم طلبوا ستائر سميكة لهذه الغرفة من وزارة الثقافة منذ ثلاث سنوات فلم يفعل أحد أي شيء.. والعهدة علي كلام الرجل طبعًا
أما عن أزمة ماء النيل فلسوف تحاول أن تفهمها، ولو شاءت رحمة الله فلن نصل للصورة المخيفة التي نهابها جميعاً والتي وصفتها كتب التراث. متي تراجع دور مصر وتراجعت هيبتها حتي تجتمع دول الحوض لتعلن توقيع اتفاقية توزيع جديدة لماء النيل؟.. اتفاقية بديلة عن اتفاقية 1929، منفردة عن مصر والسودان اللتين رفضتا هذه الاتفاقية وأعلنتا أنهما لا تلتزمان مطلقاً بها. إثيوبيا تعتمد في الزراعة علي الأمطار الغزيرة جدًا لكنها مصممة علي بناء 70 سدًا علي مجرى النيل. الكل كان ينذر بألا نصل لوضع كهذا، ومنذ أعوام طويلة قال هيكل إن مهمة حاكم مصر الرئيسة تنحصر في شيئين: تأمين مياه النيل والحفاظ علي الوحدة الوطنية. وما يسمونه مغامرات ناصر في أفريقيا كان هدفها أن يبقى لمصر هيبة ودور عند المنابع. لقد انسحبت مصر وتكومت علي نفسها تاركة المجال لإسرائيل كي تعبث كما تريد
سيكون عليك كذلك يا بني أن تواجه ظاهرة انقطاع الكهرباء والمياه، وأن تقرأ تصريحات المستشار عدلي حسين، كذلك التصريح الذي ألقاه في فعاليات ملتقي الفكر الإسلامي بالحسين، وقال فيه إن هذه الأزمات تضاعف ثواب الصائم . ولو سمح لي أن أسأله عن هذه المدرسة السياسية الجديدة: مدرسة تعذيب الناس كي يُغفر لهم. ولو سمح لي أن أعرف ما يفعله عندما ينقطع التيار الكهربي عنده في بيته.. هل يقبل الأمر في تبتل لأن ثوابه قد تزايد، أم يتصل ليوقع الرعب في قلب هذا المسئول أو ذاك؟
هناك كذلك مشاكل التعليم والأسعار التي جعلت كل بيت في ضائقة، والتهاب الكبد الوبائي والفشل الكلوي و.. و.. لا أدري هل هو النحس أم أن أخطاءهم تراكمت بسبب طول بقائهم ؟
سيكون عليك أن تحل هذا كله يا بني، وبعدها ستكون الحياة رائعة
عندما تسألني: ماذا فعلتم أنتم ؟.. لن أرد.. سأطرق وأتظاهر بأنني لم أسمع أو أقول لك إنني كتبت كثيرًا لكن لا أحد منهم يقرأ ولا أحد يسمع. شعارهم هو: قولوا ما تشاءون وخففوا من كبتكم وسنفعل ما نشاء
نعم يا بني.. ربما يمتد بي العمر حتي التسعين، لكنه سيكون مقلبًا قاسيًا فعلاً.. اعتقادي أنني سأركب الطائرة قريبًا وأحلق مبتعدًا لأنني رجل محظوظ ... صحيح أنها رحلة بلا هبوط، وصحيح أنها لن تكون من مطار كوالا لامبور، لكن لا تنكر أنني سعيد الحظ.. وبهذه المناسبة أرجو أن تكرس بعضًا من وقتك لفهم لماذا صارت ماليزيا هي ماليزيا، وصرنا نحن نحن
الدستور 31 اغسطس 2010
MSCFCالجمعة يناير 27, 2017 10:09 am